حرب الرسوم الجمركية تنذر بعودة الكساد الكبير

ترامب يلقي كلمة قبل توقيع أمر تنفيذي في البيت الأبيض بواشنطن، 20 مارس 2025 (Getty)

تشتعل الحرب التجارية عالمياً بوتيرة غير مسبوقة منذ عقود، إذ تشبه الرسوم الجمركية الواسعة التي تفرضها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والردود الانتقامية من الصين وشركاء واشنطن التجاريين، دوامة الحمائية في ثلاثينيات القرن الماضي التي أعقبها كساد ما قبل الحرب العالمية الثانية.

وحتى قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض في العشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، كان العديد من الدول يزيد من الحواجز التجارية، غالباً ضد الصين، في محاولة لصد تدفق السيارات الكهربائية والصلب وغيرها من السلع المصنعة التي تضغط على صناعاتها المحلية.

لكن هذه الحواجز تتزايد الآن مع استعداد الدول لموجة جديدة من السلع التي تُعاد توجيهها حول العالم بسبب الرسوم الجمركية الأميركية المتزايدة. وأعلن الاتحاد الأوروبي هذا الشهر أنه يعتزم تشديد الإجراءات لحماية منتجي الصلب والألمنيوم من الواردات التي تُحوّل من الولايات المتحدة بسبب رسوم ترامب الجمركية بنسبة 25% على هذين المعدنين.

ويقول الاقتصاديون والمؤرخون إن موجة التحركات الأخيرة تشير إلى أن العالم قد يتجه نحو أكبر وأوسع موجة من النشاط الحمائي منذ قانون التعرفة الجمركية الأميركي لعام 1930 المعروف باسم قانون “سموت ـ هاولي”، الذي أطلق شرارة تراجع اقتصادي عالمي استمر حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).

ورغم متوسط معدلات الرسوم الجمركية العالمية حالياً لا يزال أقل بكثير مما كان عليه في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، إلا أن الاقتصاديين يحذرون من أضرار دائمة، اقتصادياً ودبلوماسياً، مع تزايد الرسوم الجمركية وغيرها من العقبات أمام التجارة. ومن بين المخاطر التي تلوح في الأفق تباطؤ النمو، وارتفاع التضخم، وانهيار التعاون العالمي الذي يزيد من تصدع التحالفات الراسخة.

وإلى حد كبير فقدت منظمة التجارة العالمية، التي تعود جذورها إلى اتفاقية ما بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول المتقدمة للحد من سياسات إفقار الجار في ثلاثينيات القرن الماضي، أهميتها كحَكَمٍ في النزاعات وداعم للتكامل.

ويبدو أن ترامب، الذي يقول إن التجارة الحرة سمحت لدول أخرى بالاستيلاء على الوظائف والصناعات الأميركية، على وشك رفع معركته التجارية إلى مستوى جديد كلياً بحلول الثاني من إبريل/ نيسان المقبل، مهدداً بهجوم انتقامي أكبر بكثير عبر ما يطلق عليه “الرسوم الجمركية المتبادلة” مع شركاء الولايات المتحدة التجاريين الرئيسيين. كما أنه صرح بأنه يريد فرض رسوم جمركية على واردات أشباه الموصلات والأدوية والسيارات.

وبالإضافة إلى الخطوات البارزة العديدة التي اتُخذت ضد الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك الرسوم الكندية الجديدة على أجهزة الكمبيوتر والمعدات الرياضية الأميركية، صعّدت دول عديدة ضغوطها على الصين أيضاً. وفي فبراير/شباط الماضي، فرضت كوريا الجنوبية وفيتنام قيوداً جديدة صارمة على واردات الصلب الصيني عقب شكاوى من المنتجين المحليين بشأن تصاعد المنافسة على خفض الأسعار. وبالمثل، بدأت المكسيك تحقيقاً لمكافحة الإغراق في المواد الكيميائية والبلاستيكية الصينية، بينما تستعد إندونيسيا لفرض رسوم جمركية جديدة على النايلون المستخدم في التغليف المستورد من الصين ودول أخرى.

حتى روسيا، التي تعاني من العقوبات، تسعى إلى وقف تدفق السيارات الصينية، على الرغم من العلاقات الودية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ. ورفعت موسكو، في الأسابيع الأخيرة، ضريبة على السيارات المستوردة، بينما أكثر من نصف السيارات المبيعة حديثاً في روسيا مصنوعة في الصين، مقارنة بأقل من 10% قبل غزوها لأوكرانيا عام 2022.

إجمالاً، بلغ عدد القيود المفروضة على الاستيراد بين اقتصادات مجموعة العشرين الرائدة 4650 قيداً حتى الأول من مارس/آذار، بما في ذلك التعرفات الجمركية، ورسوم مكافحة الإغراق، والحصص، وغيرها من القيود على الاستيراد، وفقًا لمنظمة “غلوبال تريد أليرت”، وهي منظمة غير ربحية مقرها سويسرا، تُعنى بتتبع سياسات التجارة الدولية. ويمثل هذا الرقم زيادة بنسبة 75% منذ بداية ولاية ترامب الأولى (2017 ـ 2021)، ويزيد بنحو عشرة أضعاف عن عدد هذه القيود السارية في نهاية عام 2008.

في الولايات المتحدة، تخضع أكثر من 90% من 5200 فئة من المنتجات لقيود استيراد، بزيادة عن النصف قبل ولاية ترامب الأولى مباشرة، وفقًا لبيانات “غلوبال تريد أليرت”. وبحسب مؤسسة الضرائب، وهي مؤسسة بحثية تُعنى بدراسة السياسة الضريبية، عاد متوسط معدل الرسوم الجمركية على السلع الواردة إلى الولايات المتحدة إلى ما كان عليه عام 1946، عند 8.4%، مقارنة بـ 1.5% عندما تولى ترامب منصبه لأول مرة. وإذا نفذ ترامب جميع تهديداته المتبقية بفرض رسوم جمركية، فقد تصل على الواردات الأميركية إلى 18% في المتوسط، وفقًا لتقديرات وكالة فيتش للتصنيف الائتماني العالمية، وهو أعلى مستوى لها منذ 90 عاماً.

وفي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الرسوم الجمركية بمثابة ناقوس خطر على التجارة العالمية، التي كانت في حالة انهيار بالفعل مع غرق اقتصادات الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات في حالة من الكساد والبطالة الجماعية.

ومهّد قانون “سموت ـ هاولي”، الذي هدف إلى حماية المزارع والمصانع الأميركية من المنافسة الأجنبية، الطريق لزيادة الرسوم الجمركية على الواردات إلى الولايات المتحدة إلى حوالي 20%.

واستجابة لذلك، رفعت الاقتصادات الكبرى الحواجز التجارية. وبعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في عام 1947، وقّعت الولايات المتحدة وحوالي 24 دولة أخرى الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة (الغات) في محاولة لخفض الحواجز أمام التجارة الدولية وإعادة بناء اقتصاد عالمي مُدمّر. وانخفض متوسط الرسوم الجمركية بين الاقتصادات الكبرى من حوالي 22% في عام 1947 إلى 14% في عام 1964، ثم إلى 3% في عام 1999. وفي عام 1995، حلت منظمة التجارة العالمية محل اتفاقية الغات.

وأدى انخفاض الرسوم الجمركية إلى انتعاش التجارة العالمية، مما أدى إلى انخفاض الأسعار على المستهلكين، إلا أن تراجع الحواجز التجارية كان سبباً في انكماش الصناعات في الاقتصادات المتقدمة، حيث انتقلت الوظائف إلى دول أقل تكلفة مثل الصين. وقد سبّب ذلك ردات فعل عكسية، أدت إلى فرض رسوم جمركية جديدة خلال إدارة ترامب الأولى، والتي ظل الكثير منها سارياً في عهد الرئيس السابق جو بايدن. وفي الوقت نفسه، استهدف المزيد من الدول الصين، التي عجز اقتصادها المحلي الضعيف عن استيعاب جميع السلع التي تنتجها مصانعها، مما أدى إلى تدفق هائل من المنتجات منخفضة التكلفة في جميع أنحاء العالم.

وشملت موجة ترامب الأخيرة فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على المكسيك وكندا، و20% على الصين. وردّت الصين بفرض رسوم جمركية على فول الصويا الأميركي وإجراءات انتقامية أخرى، بينما أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطط لفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على واردات الويسكي (نوع من الخمور) والدراجات النارية الأميركية، اعتباراً من الأول من إبريل/ نيسان المقبل.

بالنسبة لترامب، كانت العقود التي شهدت توسعاً في التجارة العالمية بمثابة كارثة على الولايات المتحدة، لذا يهدف إلى القضاء على العجز التجاري المتزايد للولايات المتحدة مع الصين والمكسيك وفيتنام والاتحاد الأوروبي، واستعادة قوة التصنيع الأميركية في كل شيء، من رقائق الكمبيوتر إلى سفن الحاويات. ويقول الرئيس وأنصاره إن سياساته ستخلق فرص عمل جديدة، وتعزز الاستثمار في الولايات المتحدة، وتبشر بعصر جديد من الحيوية الاقتصادية.

وقد تكون تداعيات الحرب التجارية المتنامية اليوم أقل إيلاماً مما كانت عليه في ثلاثينيات القرن الماضي، نظراً للتغيرات في الاقتصاد العالمي، حيث إن عدة دول غنية تُعدّ الخدمات أهم من السلع لديها، وقد تعلمت البنوك المركزية والحكومات دروساً قيّمة حول استقرار الاقتصادات من خلال التحفيز. كما قاومت بعض الدول، مثل أستراليا واليابان، الرد على رسوم ترامب الجديدة، مشيرةً إلى تداعياتها على اقتصاداتها.

وصرح فريدريك نيومان، كبير الاقتصاديين الآسيويين في بنك “أتش أس بي سي” في هونغ كونغ وفق تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال، بأن هذه البراغماتية قد تمنع الحرب التجارية من الخروج عن السيطرة. ومع ذلك، فإن اتساع نطاق الصراع التجاري يخلق حالة من عدم اليقين لدى الشركات والمستهلكين، مما يضغط على الإنفاق والاستثمار والتوظيف. وفي الولايات المتحدة، تتراجع ثقة المستهلك، وتراجعت أسواق الأسهم، وتضعف استطلاعات نيات الشركات الاستثمارية.

وقال إسوار براساد، أستاذ السياسة التجارية في جامعة كورنيل في نيويورك والمسؤول السابق في صندوق النقد الدولي: “يبدو أننا على أعتاب حرب تجارية أوسع نطاقاً، إن لم تكن شاملة”. وذكرت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في وقت سابق من مارس/آذار الجاري، إنها تتوقع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي هذا العام، إلى حوالي 2.4%، من 2.9% في عام 2024، مشيرة إلى الآثار المحتملة للحرب التجارية المتصاعدة في الولايات المتحدة وخارجها.

اترك رد