
محتوى المقال
في بلد أنهكته الحرب لعقد من الزمن، تقف سوريا الجديدة اليوم على أعتاب مرحلة إعادة بناء الدولة والمجتمع من تحت الركام. وبينما تتبلور معالم النظام السياسي الجديد، يطفو إلى السطح ملف حساس ومعقد: المقاتلين الأجانب في سوريا، أولئك الذين تدفقوا بالآلاف منذ عام 2012 للمشاركة في المعارك ضد النظام السابق، والذين بات مصيرهم الآن سؤالًا مفتوحًا لا يملك أحد إجابة نهائية له.
من الجهاد إلى التحدي الأمني
بدأت القصة حين تحوّل الحراك السلمي السوري في عام 2012 إلى صراع مسلح، ما فتح أبواب سوريا لآلاف المقاتلين القادمين من آسيا وأوروبا وإفريقيا والعالم العربي. انخرط هؤلاء تحت شعارات متعددة، أبرزها “الجهاد”، وانضم بعضهم لفصائل المعارضة، بينما أسس آخرون تنظيمات جهادية مستقلة ذات ارتباطات أيديولوجية عابرة للحدود، مثل “الحزب الإسلامي التركستاني” و”جماعة الألبان” و”أجناد القوقاز” وغيرها. مع تطور الصراع وتعقيد المشهد العسكري، بات وجود هؤلاء المقاتلين يشكل عبئًا سياسيًا وأمنيًا يتجاوز كونه عنصر دعم عسكري.
مرحلة ما بعد سقوط النظام
مع سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 إثر معركة “ردع العدوان”، شارك المقاتلون الأجانب بفاعلية، بل وكانوا رأس حربة في المعركة. إلا أن هذه المشاركة لم تمنع تساؤلات محلية ودولية عن طبيعة دورهم القادم: هل يندمجون في المجتمع السوري الجديد؟ هل يُمنحون الجنسية؟ أم يُطلب منهم المغادرة بصمت وربما بالقوة؟
وفق ما أعلنته القيادة الانتقالية، فإن من قاتل من أجل الثورة، وامتلك قيماً تتماشى مع المجتمع السوري، قد يكون مؤهلًا للحصول على الجنسية. وذكر أحمد الشرع، قائد المرحلة الانتقالية، أن من عاش في سوريا لسبع سنوات أو أكثر، وتزوج من سورية وأنجب، يمكن النظر إليه كمواطن سوري محتمل. لكن هذا الطرح قوبل بجدل داخلي وتحفظ دولي واسع.
“قد يهمك: مشروع الغواصات النووية الروسية بوراي وياسن: روسيا تعيد رسم خريطة الردع العالمي من أعماق البحار”
تحفظات دولية وتشكيك داخلي

على الصعيد الدولي، تخشى العديد من الدول من أن يؤدي تجنيس هؤلاء المقاتلين، المصنفين ضمن قوائم الإرهاب، إلى تعقيد الاعتراف بالحكومة السورية الجديدة، بل وقد يعرضها لعقوبات دولية. وتحديدًا، طالبت الإدارة الأمريكية بمنع المقاتلين الأجانب من الوصول إلى مناصب سيادية داخل الدولة، كشرط أساسي لرفع العقوبات.
محليًا، يخشى السوريون من أن يهدد إدماج هؤلاء المقاتلين الهوية الوطنية أو يُحدث خللًا في توازن القوى المدنية والعسكرية داخل الدولة الجديدة. وفي حين أن بعضهم نال رتبًا عسكرية رفيعة مثل “عبدالله الدغستاني” و”عبدالرحمن الأردني”، فإن ذلك أثار استياء شرائح واسعة من المجتمع السوري لغياب النصوص القانونية الواضحة التي تضبط مثل هذه الترقيات.
مواقف متباينة في الداخل
هناك رأيان سائدان داخل سوريا الجديدة حيال ملف المقاتلين الأجانب. الأول يدعو إلى ترحيلهم ومنعهم من الانخراط في الجيش أو أي مؤسسات سيادية. أما الرأي الآخر فيرى أن بعضهم قدّم تضحيات جسيمة من أجل الثورة، ويمكن دمجهم بشروط محددة تضمن التزامهم بالقانون والسيادة السورية. وفق مصادر سورية، يبلغ عدد المقاتلين الأجانب المتبقين في سوريا قرابة 5,000 مقاتل، معظمهم متمرسون في القتال، ما يجعل من عملية ترحيلهم أمرًا صعبًا من الناحية العسكرية واللوجستية.
“اطلع على: الحوثيون والإخوان المسلمون في اليمن: عداوة مشوبة بتحالفات مصلحية”
نماذج من التعامل مع المقاتلين الأجانب
هيئة تحرير الشام، التي قادت معارك تحرير إدلب، اعتمدت سياسة براجماتية تجاه هؤلاء المقاتلين. منحت البعض مناصب قيادية داخل تشكيلاتها، وأجبرت آخرين على الاندماج أو الحل الذاتي، وسمحت لبعض المجموعات بالبقاء ضمن تحالف مشروط بولاء سياسي واضح وعدم الإخلال بالأمن المحلي. هذه السياسة فتحت باب النقاش حول إمكانية دمج المقاتلين الأجانب في سوريا (Syria) الجديدة تحت شروط صارمة.
خيارات الدولة الجديدة: بين الحلول الناعمة والتدابير الصارمة
أمام القيادة السورية الجديدة عدة سيناريوهات محتملة للتعامل مع هذا الملف:
- الدمج المشروط: منح الجنسية أو المناصب لمن يثبت التزامه بالقانون السوري وسيادة الدولة.
- الترحيل الطوعي أو الإجباري: خاصة لمن يرفضون الخضوع للنظام الجديد أو يمثلون تهديدًا أمنيًا.
- الملاحقة القضائية: لمن ثبتت مشاركته في انتهاكات أو أنشطة إرهابية.
- التصفية السياسية: عبر تقليص نفوذهم تدريجيًا ونقلهم إلى دول أخرى كما حدث سابقًا مع “حراس الدين”.
“قد يهمك: أوكرانيا تعيش الكابوس بين ترامب وبوتين.. اتفاقية المعادن النادرة وثيقة إذعان أم شراكة؟”
خلاصة المشهد: الدولة أولًا
سوريا اليوم تبني هوية جديدة، وجيشًا جديدًا، ودولة ترفض الفوضى والمشاريع العابرة للحدود. ملف المقاتلين الأجانب ليس مجرد إرث من الماضي، بل تحدٍّ حقيقي لمستقبل الدولة الجديدة. والقيادة الانتقالية تدرك تمامًا حساسية هذا الملف، وتسعى، كما تشير مصادرها، إلى حل سلمي يوازن بين مطالب الداخل وشروط الخارج، دون المساس بسيادة الدولة أو تعريضها لمخاطر أمنية أو عقوبات دولية. يبقى مستقبل هؤلاء المقاتلين مرهونًا بقرارات القيادة السورية الجديدة، وبمدى قبولهم الاندماج تحت مظلة الدولة. ما بين التجنيس المشروط والترحيل، يتحدد مصيرهم في الأيام القادمة.