
محتوى المقال
في الوقت الذي يراقب فيه الغرب تطورات الحرب في أوكرانيا عن كثب، يبدو أن روسيا تعد العدة لمعارك من نوع آخر، بعيدة عن ضجيج المدافع وصخب الجبهات. ففي صمت أعماق المحيطات، يتجدد سباق التسلح عبر مشروع الغواصات النووية الروسية بوراي وياسن، الذي تسعى موسكو من خلاله إلى إعادة فرض هيبتها البحرية، واستعادة دورها كقوة نووية عالمية.
بوراي وياسن: مشروع استراتيجي تحت الأمواج
ليست الغواصتان “بوراي” و”ياسن” مجرد قطع بحرية حديثة؛ بل تمثلان مشروعا استراتيجيا متكاملا، يهدف إلى استعادة التوازن العسكري الدولي عبر التفوق في أعماق البحار. إذ تدرك روسيا أن الردع النووي اليوم لم يعد يعتمد فقط على الصواريخ العابرة للقارات أو القواعد البرية، بل باتت الغواصات النووية، بقدرتها على التخفي والحركة بصمت مطبق، محوراً رئيسياً في أي معادلة قوى حديثة. فلاديمير بوتين، مدركاً لدروس الحرب الباردة، يضع الآن مائة مليار دولار على الطاولة، لإعادة كتابة سيناريو الردع العالمي، وهذه المرة من تحت سطح البحر.
أوكرانيا غطاء لمشروع بحري ضخم
بينما تستهلك المعارك الدائرة في أوكرانيا الاهتمام الدولي، تشير تحليلات متزايدة إلى أن هذه الحرب قد تكون مجرد غطاء لانطلاقة سباق تسلح بحري جديد أكثر خطورة. فقد كشف الأداء المتعثر للبحرية الروسية في البحر الأسود، والخسائر التي لحقت بها هناك، عن ضرورة تحرك موسكو لإعادة بناء قوتها البحرية بشكل مختلف.
ورغم أن الخسائر البحرية مثل غرق السفن واستهداف القواعد في سيفاستوبول قد أضعفت الحضور الروسي السطحي، إلا أن بوتين اختار خياراً آخر: تطوير الأسطول النووي القابع في الأعماق، بعيداً عن أعين الرادار والرصد.
“قد يهمك: انتحار فرجينيا جوفري“
مشروع بوراي وياسن: قوة لا ترى ولكنها موجودة
تتمثل الخطوة الأولى في إعادة تفعيل مشروع “بوراي”، الجيل الرابع من الغواصات النووية الاستراتيجية. تتميز هذه الغواصات بقدرتها على إطلاق صواريخ “بولافا” النووية العابرة للقارات، التي يصل مداها إلى أكثر من 8,000 كيلومتر، مع مزايا تقنية تجعلها قادرة على تغيير مسارها أثناء الطيران لتفادي أنظمة الدفاع الصاروخي. ليس هذا فحسب، بل تتمتع غواصات بوراي بقدرة فريدة على العمل بصمت شبه مطلق، مما يجعل اكتشافها وملاحقتها أمراً بالغ الصعوبة حتى لأكثر أنظمة الكشف تطوراً.
لكن بوتين لم يكتف بتعزيز قوة الردع النووي، بل مضى إلى أبعد من ذلك عبر مشروع “ياسن إم”، الذي يمثل جيل الغواصات الهجومية متعددة المهام. تتميز غواصات ياسن بقدرتها على ملاحقة وتدمير حاملات الطائرات والسفن الحربية، إضافة إلى ضرب أهداف برية على مسافات تصل إلى مئات الكيلومترات باستخدام صواريخ مثل “كاليبر” و”أونكس”.
استثمار ضخم رغم الضغوط الاقتصادية
رغم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها روسيا نتيجة العقوبات الغربية، والانخفاض الحاد في قيمة الروبل، قررت موسكو تخصيص أكثر من 100.8 مليار دولار حتى عام 2035 لتطوير أسطولها من الغواصات النووية. الخطة تتضمن تصنيع ما لا يقل عن 12 غواصة جديدة، إلى جانب تحديث الغواصات القديمة وتحويلها إلى منصات هجومية أو دفاعية حسب الحاجة. تبرر القيادة الروسية هذا الاستثمار الضخم باعتباره “ضرورة استراتيجية”، لا سيما أن الردع النووي الصامت يمثل آخر خطوط الدفاع في مواجهة أي تصعيد غربي محتمل.
“اطلع على: الحوثيون والإخوان المسلمون في اليمن: عداوة مشوبة بتحالفات مصلحية”
رسالة موجهة إلى واشنطن وبكين والناتو
يحمل مشروع الغواصات النووية الروسية بوراي وياسن رسائل واضحة إلى أكثر من طرف دولي:
- واشنطن: التي تطور بدورها غواصات “كولومبيا” النووية كبديل لغواصات “أوهايو” ضمن ترسانة الردع الأمريكية.
- بكين: التي تسعى لتسريع تطوير أسطولها النووي، في ظل تصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي.
- الناتو (NATO): الذي كان يعتقد أن روسيا لم تعد تمثل تهديداً بحرياً مباشراً، وهو ما قد يدفعه لإعادة صياغة استراتيجياته البحرية.
اللافت أن الاستراتيجية الروسية لا تركز على البحر الأسود أو بحر البلطيق فحسب، بل تمتد إلى المحيط الهادئ والمحيط المتجمد الشمالي، حيث تتقاطع مصالح الطاقة والملاحة الدولية الجديدة بفعل ذوبان الجليد.
“قد يهمك: أوكرانيا تعيش الكابوس بين ترامب وبوتين“
التحديات أمام المشروع الروسي
رغم طموح المشروع، يواجه تحديات هائلة تتعلق بالضغوط الاقتصادية والتاريخ الطويل من التأخير والفشل في برامج التسليح البحري الروسي. يكفي أن نذكر حاملات الطائرات الروسية كمثال حي على مشكلات الصيانة والتحديث. مع ذلك، يبدو أن الكرملين هذه المرة يتبنى نهجاً أكثر انضباطاً ومدعماً بإيرادات الطاقة ومبيعات الأسلحة، لضمان تنفيذ مشروع الغواصات النووية بنجاح.
الغواصات الصامتة: إرث دائم للحرب الأوكرانية
حتى وإن انتهت الحرب الأوكرانية يوماً ما باتفاق أو تسوية، فإن إرثها البحري سيظل قائماً. فالغواصات “بوراي” و”ياسن” ستواصل دورياتها في أعماق المحيطات، حاملةً معها احتمالات الردع والتصعيد وتشكيل ملامح توازن عالمي جديد. في هذا السياق، لن تكون المعركة المقبلة بين روسيا والغرب مجرد معركة على الأرض أو في السماء، بل ستنتقل إلى أعماق المحيطات، حيث لا صوت يُسمع، ولكن حيث يمكن لكل شيء أن يتغير فجأة.
مشروع الغواصات النووية الروسية بوراي وياسن: خاتمة
إن مشروع الغواصات النووية الروسية بوراي وياسن يمثل أكثر من مجرد تحديث للبحرية الروسية، إنه إعلان واضح عن عودة موسكو إلى ساحة التوازنات الدولية عبر العمق البحري، في زمن تتسيد فيه التكنولوجيا الدقيقة والطائرات المسيرة. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل نشهد عصراً جديداً من المواجهة الصامتة في المحيطات، أم ستكون الغواصات ورقة ضغط في مفاوضات كبرى قادمة؟ الإجابة، كما نوايا بوتين، تبقى مدفونة في أعماق البحار.